الأربعاء، مارس 10، 2010

عــدالــــة عـمـيـــاء ....

أمام إحدى القاعات في مبنى القضاء العالي ، وقف جمهور من الناس يهنئون المحامي شوكت على مرافعته وفوزه بتلك القضية العسيرة التي اتهم فيها أحد رجال الأعمال المشهورين ، والذي كان متهما في تهمة القتل العمد والتزوير والسرقة ، ورجع شوكت بذاكرته للخلف متذكرا بداية تلك الحادثة ..
كان الأمر حين دخل رجل الأعمال إبراهيم شكري على شوكت في مكتبه يخبره فيها بالقضية التي أُدين فيها وقال له عن كيفية اتهامه بها ، ولأن شوكت ليس مجرد غرا ساذجا فى لعبة رجال الأعمال لكونه محامي ورجل أعمال فى نفس الوقت فأخبره بكون الجميع يعلم أن إبراهيم شكري من كبار تجار المخدرات والقتل العمد والتهريب للحوم الفاسدة وإنه يعتبر الملك في هذا الأمر ، ولا يزال يذكر الحوار الذي دار بينه وبين إبراهيم حين استند شوكت على سطح مكتبه وسأله :
إبراهيم بك ، الجميع يعلم كونك تتاجر في مثل تلك الأمور وتبرع فيها ، فلماذا لجأت إليّ ؟
نظر له إبراهيم بصمت ثم رد ببطء :
الحقيقة يا سيد شوكت ، إنك المحامي الوحيد الذي لم يفشل في قضية واحدة طوال أكثر من عشر سنوات ومن الصعب أن أجد مثلك .
ضحك شوكت وقهقه عاليا وقال من بين ضحكاته :
انت تعلم جيدا إن الثمن سيكون مكلفا عليك هذه المرة لكون الأدلة ثابتة لا محالة ، وكل من كان في المخزن اعترف إن البضاعة لك .
اكمل إبراهيم بغيظ مكتوم :
كما أن العقيد عمر هو المسئول عن تلك القضية وانت تعلمه جيدا ومدى عناده وعدم شراؤه .
اومأ شوكت برأسه ورد بهدوء صارم :
العقيد عمر لا يستطيع أحد شرائه ولن تعلمني عنه فهو زميل سابق ، حسنا دعك من هذا الأمر ، ستكلفك تلك القضية أمرا بسيطا .
كان إبراهيم يعلم جيدا أن شوكت يريد الإنضمام له فى صفقاته التجارية وأن يأخذ منه نسب لكي يكون السيد المطلق داخل هذا المجال لهذا نظر له ورد من بين أسنانه :
حسنا شوكت بك ، العقود التي ستبرمها شركاتي لك منها النصف ، هل يرضيك هذا ؟ ، والآن القضية معك أرني كيف ستخرجني ؟.
ضحك شوكت بسخرية بالغة وقال بهدوء ساخر :
انت تعلم جيدا يا إبراهيم بك ، إن شوكت خُلق لكي يسخر من القانون فلقد صنع هذا القانون للرعاع وليس السادة وسترى كيف سأخرجك .
قالها شوكت وكان يعلم إنه سيحقق كلمته فهو الأستاذ في عالم القانون ولم يخسر طوال حياته العملية .
*******************
مكث العقيد عمر في مكتبه لمدة يومين كاملين يتابع ما يصل له من تقارير من كافة أنحاء الأماكن التي تتبع قسمه ، وأمسك ورقة وضعها أمامه أحد مساعديه وقال وهو ينفث دخان سيجارته :
إذاً شوكت قبل تلك القضية ، واضح إن إبراهيم شكري قد كُتب له البراءة قبل المثول داخل قفص الإتهام ولو لمدة دقيقة واحدة .
نظر له مساعده وقال بدهشة ممزوجة بالإستنكار :
أية براءة يا سيادة العقيد ؟ إن الأدلة ثابتة هذه المرة ، ولن ينجو لقد خرج بكفالة والآن سيكتب عليه أخيرا الإعدام أو السجن المؤبد على الأقل في هذه القضية .
ضحك عمر وتمتم بسخط :
إنك لا تعرف شوكت جيدا ، إنه قادر على التلاعب بكافة القوانين على وجه الخليقة ، فهو لا يعترف سوى بمبدأ الإنتصار وسترى كيف سيحقق النصر في تلك القضية ، بمنتهى منتهى الخسة والنذالة سيأخذ هذا الوغد إبراهيم شكري براءة ومن أول جلسة .
كان المساعد مذهولا من تلك الثقة المطلقة لدى العقيد عمر ، ولكنه لا يعلم شيئا عن عالم المحاماة وما يحمله من أمور لا يصدقها عقل .
أمور تبرأ منها المحاماة ويبرأ منها القضاء .
******************
عاد شوكت بذاكرته لساعة خلت وتذكر مرافعته التي وصفها الجميع بكونها أكثر من رائعة بل مذهله وستكون مرجعا للمحامين لمدة لا تقل عن خمس سنوات ، وتحدثت الصحافة والإعلام عن مدى براعة المحامي شوكت فتحي في إدارة القضية وتفنيد أدلة الإتهام ، وبيِّن ووضح كيف أن الأدلة لا أساس لها من الصحة وأن الأمر كان شركا لرجل الأعمال المحترم إبراهيم شكري وإن تلك المكيدة لكونه رجل أعمال نزيها يحارب من أجل رفعة إقتصاد هذا البلد ، وحينما انتهت مرافعته وعلى الرغم من معرفة الجميع لإبراهيم شكري ومدى اتصاله بعالم الجريمة ، إلا أن القاضي ومستشاروه لم يجدوا أمامهم سوى النطق ببراءة رجل الأعمال ، وهناك خارج القاعة وقف شوكت فتحي يستقبل تهاني الجميع ثم نظر تجاه باب القاعة وشاهد العقيد عمر وهو خارج فابتسم بسخرية مما استفز عمر فخطا بخطوات بطيئة تجاهه وقال بغضب مكتوم :
ألف مبروك ، حضرة المحامي ، لقد فزت بتلك القضية أيضا ولكن ألم يخطر ببالك كم من أبناء هذا البلد سيذوقون الموت نتيجة تحرير هذا الوغد من يد العدالة ؟
نظر له شوكت بكل سخرية ورد ببرود :
أولا إبراهيم بك ليس وغدا أو مجرما ، وانت رأيت كيف أثبتت براءته ، و لولا إنك صديق قديم لقاضيتك بسب موكلي وشريكي المستقبلي ، ثانيا لا يهمني عزيزي عمر كم سيموت أو يذوق الموت ، فما يهمني فقط هو أنني كسبت تلك القضية بمنتهى البراعة وأثبتت كفاءتي كمحامي وقبضت ثمن تلك الكفاءة .
تقدم عمر وأمسك كتف شوكت وصاح بحنق :
أجننت يا شوكت أترضى بالمال مقابل العدالة ، ألم تكن فى صغرك تطمح إلى تحقيق العدالة ، أم أن أحلامك تتبخر حين تكبر ؟
ضرب شوكت ذراع عمر بخشونة ورد بصوت عصبي :
أحلام الصغر ، والعدالة وتحقيقها ، لم نعد فى تلك الأفلام السينمائية المملة التي تعرض يا عمر ، ألم أكن كفءًا وكنت الأجدر في كل أمر ومع ذلك العدالة لم تنصفني ، ألم أكن الأجدر في الحياة العملية ومع ذلك العدالة لم تنصفني ، وحين اتحول لألعب أنا بالعدالة التي ظلت تلعب بي طوال حياتي تخبرني عن تحقيق العدالة .
ثم ابتسم وقال بسخرية :
عزيزي عمر ، منذ أن تحولت العدالة للعدالة العمياء ، وكسونا عيني تلك المرأة حاملة الميزان بشريط أسود حتى لا تفرق بين كبير وصغير وغيره ، تحول القانون للأعمى والذي يستطيع أي محامي في مثل براعتي أن يخرج ليس فقط قاتل ومهرب بل وأكبر قاتل وعلى مرأى من الجميع يستطيع أي فرد يخرجه لأمر واحد القضاء يرى فقط الأوراق والأدلة والبراهين .
استدار العقيد عمر مع مساعده وردد عليه تلك العبارة التي قالها شوكت :
الأوراق ، والأدلة والبراهين ، هذا فقط ما تعترف به العدالة .
لم تمضِ دقيقة على قول العقيد عمر حتى خرج إبراهيم شكري من القاعة والمصابيح تلمع فى وجهة والجميع يهنئه على براءته فإتجه بنظره ناحية شوكت الذي دخل عليه فاردا ذراعيه وقال وهو يحتضنه :
مبروك البراءة ، ألم أخبرك إني سأنجح في تلك القضية .
ربت إبراهيم على ظهره وقال هامسا في أذنه :
لأنك أبرع محامي هذا البلد ، وأهلا بشراكتك ، فانت خير عون لي .
قالها إبراهيم شكري وعيناه تلمعان ببريق كبير معلنا أن الوقت المقبل سيكون اللعب أكثر متعة .
******************
جلس عمر خلف مكتبه بعد أن ربح شوكت القضية وأخذ يستدير بمقعده فنظر له مساعده الذي كان يجلس أمام مكتبه وقال بعصبية :
سيادتك صدقت في حدسك يا أفندم ، بالفعل خرج إبراهيم شكري براءة على الرغم من قوة الأدلة التي كافحنا لكي نوقعه بها .
نظر له عمر وظل يدور بمقعده بمنتهى الهدوء ثم أوقف الدوران بقدميه وقال :
إنك لا تزال جديدا فى تلك اللعبة ، الفساد زكم الأنوف ، ولقد انغمس العديد من المراكز المرموقة في تلك القضايا وأصبح المعتاد هو خروج أمثال هؤلاء البشر من كافة القضايا التي يتهمون فيها ، ومن الصعب عليك أن تجد دليلا جديدا نظرا لفساد الأجهزة المعنية والجهات القضائية ولا تنسى إنك تتحدث عن أحد أكبر رجال الأعمال فى البلد وكثيرين متورطين معه .
حدق المساعد الشاب في وجه العقيد عمر بإستنكار وأخذ يدير ما قاله في رأسه ، ثم عاد ليسأل :
والآن ماذا سنفعل ، هل سنصمت على هذا الأمر ، أنترك أمثال إبراهيم شكري طلقاء وهذا المحامي شوكت فتحي يخرجونهم من القضايا بمنتهى السهولة ؟
هز عمر رأسه بهدوء وعاد ليدير مقعده بهدوء وقال في أثناء دورانه :
سأعلمك أمر ، حين تمرح الذئاب فى الغابات وتكون الفريسة تكفي الجميع تجد الجميع صامتا لكون الفريسة متاحة للكل ولكن حين يشعر ذئب أن أخرا يشكل خطرا عليه فهو يسعى بكل قوة لكي يزيحه عن طريقه .
فهم المساعد الشاب كلام العقيد عمر فأكمل كلامه :
حضرتك تعني أن الحرب ستبدأ بين شوكت وإبراهيم وأن إبراهيم سيغدر بشوكت ؟
هز عمر رأسه بهدوء وهمس لمساعده :
لقد اتفقا على المشاركة في الصفقات ولا يعلم شوكت عدد الذين ضحى بهم إبراهيم شكري لكي لا يشاركوه فى صفقاته والدور الآن على شوكت لكي يتم التضحية به .
وسترى ماذا سيحدث بين الاثنين .
وكان ما حدث ..
*************
داخل مكتب العقيد عمر في مديرية الأمن ، دخل شوكت فتحي بمنتهى السرعة وحارس الغرفة وراؤه قائلا :
يا سيد هكذا لا يصلح .
قاطعته إشارة العقيد عمر فأدى العسكري الإنتباه ثم استدار مغادرا الغرفة تبعا لإشارة العقيد عمر ، فنظر عمر لشوكت وسأله :
ماذا هناك يا شوكت بك لماذا دخلت بتلك الطريقة ؟
أجاب شوكت بصوت لاهث :
انجدني ، انقذني يا رفيق الطفولة والصبا ، لقد خُدعت من قبل هذا الرجل إبراهيم شكري ، لقد استغل سذاجتي وأخذ توقيعي على عدة أوراق وحملني الأمر نيابة عنه .
أطلق عمر ضحكة عالية ترددت فى سماء الغرفة ونظر تجاه شوكت وقال بسخرية :
شوكت بك أبرع محامي في البلد يقع فى مثل هذا الخطأ الصغير ، يضع توقيعه على عدة أوراق لا يدري شيئا عنها ، فلتقل كلام يصدقه عقل .
ناح شوكت وأخذ يردد :
لقد ضحك عليّ يا صديقي وأخذ توقيعي على صفقات مشبوهة وأنا الآن سيتم القبض عليّ ؛ رجاءا أغثني من هذا الوحل .
مال عمر مستندا بمرفقيه على سطح مكتبه وسأل ببرود :
أواثق من كلامك ؟
أومأ شوكت برأسه إيجابا فأكمل عمر بمنتهى البرود :
ألم تجلس في مكتب وتتفق مع إبراهيم شكري على إخراجه براءة وتأخذ النصف من صفقاته المشبوهة تلك ؟
حدق شوكت فى وجه عمر بدهشة فابتسم عمر بسخرية وقام من خلف مكتبه وسار حتى واجه شوكت وقصّ عليه الأمر ...

انتهى عمر من الكلام وأخرج الأصفاد ووضعها أمامه فصاح شوكت بذهول :
ماذا تفعل يا عمر اتلقي القبض على صديق الطفولة دون أن تقف بجواره ؟
رد عمر بصوت بارد كأنه يأتي من بئر سحيقة :
للأسف يا صديقي لقد صدر أمرا بإلقاء القبض عليك قبل أن تدخل لمكتبي بدقائق ، ولقد وفرت عليّ مشقة الحضور لمنزلك والقبض عليك وتذكر يا صديقي لقد نصحتك منذ أن دافعت عنه إنه قاتل ومزور ولكنك دافعت عنه بإستماتة .
صاح شوكت بذل:
ولكني برئ .
رد عمر بهدوء :
اتذكر كلماتك العدالة أوراق وبراهين وأدلة وهذا ما متوافر في قضيتك يا صديقي ، والأوراق عليها امضاؤك وانت مدان ، فعليك الإعتراف بجريمتك .
واستطرد بصرامة ساخرة:
والأوراق التي انت موقع عليها موجودة أيها المحامي البارع .
طأطأ شوكت رأسه بذل وتذكر كون العدالة لا تعترف سوى بالأدلة والبراهين
ولا يوجد من هو أبرع منه لكي يخرجه
فهذه العدالة لا تميز حين يقع أحد تحت براثنها فهي
عـمـيـاء

I.M.S.A \ M.S.M.O

هناك 5 تعليقات:

  1. للأسف عمياء ، فلو كانت تبصر ولو قليلا لما اخذ رجال الاعمال لندن ملاذا لهم بعد ارتكاب جرائمهم ، لو كانت تبصر فربما نال بعضهم العقاب الذى يستحقه ، وربما ما كان هناك كل هذا الفساد اصلا .. لكن للأسف فى مصر الاعتراف الوحيد بالاوراق الرسمية والادلة ، ولو اثبتوا عدم وجود الشمس باوراق رسمية لالغينا الشمس فعلا من الوجود !
    اسلوب رائع ممتع ، والفلاش باك اللى فى النص جميل جدا ويلفت انتباه القارئ عشان " ميسرحش " بعيد عن القصة !

    بالتوفيق فى كل الاعمال القادمة بإذن الله :)

    ردحذف
  2. اسلوب الكتابة شيق و القصة يمكن اسقاطها على الواقع فكدت انطق باسم المحامى
    !

    بشكل عام اعجبت بفكر مدونتك


    تحياتي

    ردحذف
  3. بلاك بيرل :
    منورة القصة وشكرا على رأيك في الفكرة ..
    انتظري كل جديد على مدونة المجانين ..

    تيرز :
    شكرا جدا على رأيك الغالي ..
    منورة مدونة المجانين
    وفي انتظار تواجدك الدائم معنا ..

    ردحذف
  4. مش احسن ماعندك
    مش احسن حالاتك
    بس مش بطاله
    ركز شويه

    ردحذف
  5. غير معروف :
    شكرا لك على التواجد
    واهلا بك في المدونة
    انتظر كل ما هو قادم إن شاء الله

    ردحذف

خد راحتك في الجنان معنا حرية الرأي مكفولة للجميع حتي لو هتجنن علينا
نظرا لوجود مشاكل في نظام التعليقات لغير معرفين برجاء عدم التعليق بغير معرف منعا لاختفاء التعليقات