" اسمع يا بني ، هؤلاء الناس لا تقترب منهم ، ولا تعاملهم "
عبارة لطالما ترددت في رأس ( محمود ) ، ذلك الرجل الذي يعمل في أحد المكاتب التجارية ، لا يزال يتذكر حديث والده منذ أن كان صغيرا ، كان دائما ينبهه بعدم التعامل مع النصارى وألا يأخذ منهم شيئا ولا يتعامل معهم أبدا ..
ومع مرور الوقت أصبحت تعاملاته بها بعض الحساسية مع زملائه المسيحيين ، لا يضحك على نكاتهم لا يمازحهم لا يتحدث معهم إلا نادرا ، والآن وهو على مشارف الثلاثين من العمر لا يلقي عليهم حتى السلام !!!
لا يزال يتذكر المسافة التي كان يقطعها من منزله حتى أبعد محل لكي يشتري حاجته ولا يبتاعها من ذلك المسيحي الذي يبيع بالقرب من منزله ، فقد أصبح من المبادئ الأساسية لديه عدم إعطاء أي مسيحي جنيها أو حتى مليما ، لماذا ينتفع هؤلاء الناس منه ، وهم يكرهوننا ويحقدون علينا ؟؟
ها هو الآن مسافرا لمحافظته حيث مسقط رأسه ، وهو فخور بصفته طوال حياته لم يتعامل مع أي نصراني ، وأثناء تذكره لكلمات والده الذي ترك مسقط رأسه وعاش في المدينة وترك الأرياف اصطدم بأحدهم فاعتذر بحرارة ثم نظر على يده اليمنى فوجد ذلك الصليب ..
كان يريد أن يستمر في الأعتذار لأنه كان شاردا ، ولكنه حين رأى ذلك الوشم توقف حتى عن مجرد التفكير في الإعتذار ، نظر أمامه فوجد رجلا يكبره عمرا ، يستحق المساعده وليس فقط الإعتذار ولكنه توقف ، حتى وإن كان يستحق المساعدة لن أساعده لأنه على غير ديانتي ..
تركه ( محمود ) وذهب إلى الكافيتريا العامة داخل المحطة لكي يحصل على وجبة غداء وتذكر ذلك الموقف البغيض الذي يجثم على أنفاسه منذ يومين حين كان متنقلا داخل سيارة أجرة فمن عادته حين يركب سيارة أن ينظر بداخلها إن وجد أي صورة مميزة يخرج منها فورا ولا يستقلها وحين ركب تلك السيارة وبعد أن وصل إلى مقصده ترجل منها ونظر إلى السائق وسأله عن الأجرة فرد عليه :
ما تريد دفعه .
فابتسم وقال له :
حسنا ، كما تشاء ، عشر جنيهات ، اتفقنا .
ابتسم السائق و وقال له :
خير ، كما تريد يا بك .
أخرج محمود الورقة المالية من جيبه ودفعها للسائق الذي أخذها وقال :
إنه رزقك يا عذراء ، فضل ونعمة .
فنظر له محمود بغضب وسأله:
هل انت مسيحي ؟
فأومأ الرجل برأسه إيجابا ، فاغتاظ محمود من كونه أخذ العشر جنيهات منه فقال له :
ولماذا لا تضع داخل سيارتك تلك الصور التي ترمز لكم .
فابتسم السائق بهدوء وقال :
السيارة ملك لصديقي مصطفى ، ونحن جيران ، ثم إننا مصريون يا بك ولا نقول مسلم ومسيحي .
ترك محمود السائق وهو يلعنه بداخله و...
أفاق على رؤية ذلك الرجل المسيحي يجلس على الطاولة التي تجاوره ، فنظر له شذرا وترك امتعته لكي يدخل لدورة المياة ، وبعد أن انتهى من قضاء حاجته عاد لطاولته ليجد نفس الرجل جالسا على الطاولة التي تجاوره ، فجلس على طاولته وقال بينه وبين نفسه:
أيها الأوغاد ، الآن تتواجدون بيننا ، تأكلون وتشربون ، لولا تواجدنا هنا لما كان لكم نفس ، ألم تكن قادرا على التواجد هنا يا نيرون لكي تحرقهم أحياء ؟ ، ألم تعش معنا يا هتلر لكي تحرقهم في أفران حرق اليهود ؟ !!
نظر بجانب عينيه على الرجل نظرة ساخطة فما كان من الرجل إلا أن نهض و جلس أمامه وسأله بهدوء :
هل هناك ما يسيئك يا بني ؟ إنك لا تبدو على ما يرام ..
حدق محمود في وجهه بسخط وغضب ورد :
ومَن انت لكي تتدخل يا هذا ؟ وما شأنك بي أيها المسيحي ؟
ربت الرجل على كتفه بهدوء وقال :
هل تنظر لي هكذا لكوني مسيحي ، حسنا ألا تعلم أن رسولك وصى بالأقباط خيرا ، ومَن أنا ؟ ، أنا مصري مثلي مثلك أم هذا لا تعترف به ؟
ضرب محمود يد الرجل بقوة وصاح :
لست قبطيا حتى استوصي بك خيرا ، وانت تقول إنكم مصريون ، كلما تريدون شيئا أو يكون لكم طلبا تذكرون تلك العبارة ، لماذا لا تشعرون بكونكم مصريين إلا حين تريدون منا شيئا ، دائما ما تكرهونا والآن تخبرني إنك مصري مثلي .
نظر له الرجل بأسف ورد بحزن :
يحزنني طريقة تفكيرك ، عجيبة يا رجل ، هل تعتقد إن الحياة قاصرة فقط عليك ، إننا نعيش دون كلمة مسلم ومسيحي تلك ، يربطنا كلمة الوحدة ، ألا يقول دينك لكم دينكم ولي دين ؟ ..
هؤلاء الأوغاد ، يتحدثو بمنتهى الطيبة وعاش الهلال مع الصليب وسعد باشا زغلول ، طالما هناك فائدة لهم ، دون ذلك يخبروك أن المسيحيين هم أفضل من أي بشر مثل هؤلاء اليهود الملاعيين شعب الله المختار ، كلما تتحدث مع أحدهم يخبرك قال رسولكم كذا وفعل كذا ، ألا تقولون لنفسكم هذا أيها الأوغاد ..
قاطعه سؤال الرجل بمنتهى الطيبة :
من الواضح إنك على سفر ، هل تحب أن ادعوك لشراب شئ ما ؟
نظر له محمود بسخرية ، مَن هذا المسيحي الذي يدعوني لشراب شئ ، لن أتناول قدح ماء حتى إن كان من يد نصراني ، سحقا لن يحدث هذا حتى لو مُت الآن ..
ابتسم محمود بسخرية ثم نهض ليدخل المرحاض ثم عاد وأخذ حقيبته ويلقي نظرة تهكمية على الرجل ويخرج من الكافيتريا وهو شارد الذهن متأكدا إنه على صواب فيما فعله و ....
" انتبه يا استاذ "
كانت تلك العبارة هي آخر عبارة سمعها محمود قبل أن تصدمه الحافلة وتلقيه بقوة على جانب الطريق وتنهي هذا الفصل من حياته ...
*****************
" اسمع يا بني ، هؤلاء الناس لا تقترب منهم ، ولا تعاملهم "
ترددت تلك العبارة داخل وجدان محمود وهو يستعيد وعيه ، وشعر بدوار كثيف يحيط به ، ففتح عينيه في صعوبة بالغة ليحدق حوله ووجد طبيب شاب ينحني عليه ، وحين رآه مفتحا عينيه اعتدل وقال له :
حمد لله على سلامتك .
نظر له محمود بعينين زائغتين وسأله بضعف :
أين أنا ؟ وماذا حدث ؟
أجابه الطبيب الشاب وهو يملأ إستمارة المعاينة :
أين انت ؟ في مستوصف خيري ولا تقلق العناية فيه جيدة ، ماذا حدث ؟ صدمتك الحافلة فتم نقلك إلى هنا ووتم إنقاذك بفضل من الله تعالى وتبرع هذا الرجل بدمه إليك .
قالها وأشار بيده فحاول محمود أن يمد بصره ولكنه لم يستطع فعاد ونظر لسقف الحجرة وقال :
بارك الله فيه ، وأكثر الله من أمثاله .
أتاه صوت الرجل من طرف الفراش :
حمد لله على سلامتك يا بني .
ابتسم محمود بضعف وقال دون أن يحرك نفسه :
الحمد لله ، صوتك يبدو مألوفا ، هل اعرفك ؟
ظهر وجه الرجل أمام عينيه وكان هذا كفيلا بإجابته ، إنه ذلك المسيحي الذي سخر منه في الكافيتيريا ، هو نفسه من نقله إلى المستوصف الخيري وأعطاه جرعة من دمائه لكي ينقذه !!!
نفس الرجل الذي تحدث معه بمنتهى التهكم والسخرية دفع دماءه لكي ينقذه !!!!
نفس المسيحي الذي سخر من بني ديانته هو مَن نقله لهنا ليتم إسعافه !!!
الآن تجري دماء ذلك الرجل داخله ، هل فرق الله بين دمائه ودماء المسيحي ؟!!!
تضاربت أفكار محمود وهو ينظر لوجه المسيحي ، الذي كان ينظر له بحنان وقال وهو يربت على كتفه :
حمد لله على سلامتك يا بطل ، حقيبتك هنا ، هيا تعافى حتى تستطيع أن تبلغ وجهتك ..
ربت محمود على يده ودموعه تملأ وجهه :
ارجوك ، سامحني عما بدر مني في الكافيتيريا .
قبل الرجل رأسه وقال :
لا داعي لكل هذا ، فأنا وانت وكلنا أخوة وتربطنا وحدة هذا البلد .
رد محمود بإمتنان :
صدقت .
*******************
بعد عدة أيام رافق الرجل محمود خارج المستوصف وأخذه في سيارته إلى موقف الحافلات وكان محمود هادئا ينظر إلى إحدى الصور وقال :
اتعلم كنت في السابق لا اركب سيارة تحتوي على أيا من تلك الصور .
ابتسم الرجل في هدوء ورد :
انت تعلم ، الدين لله ، ودينكم يقول لكم دينكم و...
أكمل محمود مبتسما :
ولي دين .
وصلا إلى الحافلة فأخذ محمود حقيبته وشكر الرجل كثيرا وصعد بهدوء إلى الحافلة يتذكر ما كان والده يقوله ، ويوازن بين ما حدث له وتوقف ذهنه عند عبارة واحدة ..
" نحن مصريين "
بالفعل لا فرق بين أي فرد يتمتع بحقوقه داخل هذا الوطن ، مسلم ، مسيحي ، حتى لو بوذي ، لكل إنسان دينه ، ولكن المهم هذا البلد الذي يجمعهم ..
كان تفكيره قد تغير بنسبة 180 درجة ، لم يعد يراهم بتلك الصورة القاتمة التي كانت تغشي بصره من قبل ، بل تغيرت الصورة تماما ، وحين صعد وجلس نظر بعينه لمشاجرة بين اثنين أحدهم مسلم والأخر مسيحي وكان المسيحي يقول :
اصمت أيها المسلم ، إنكم .....
ذهب محمود لكي يفض الشجار وقال بهدوء موجها حديثه للمسيحي :
ألا يقول المسيح عيشوا في سلام ، يا رجل نحن أولا وأخيرا مصريين .
نظر له المسيحي وشعر بالخجل ، فتذكر محمود نفسه وعاد ليربت على كتفه ويقول موجها كلامه للمسلم :
أليس كذلك ؟
نظر له الاثنين ورد في نفس واحد :
بلى ، كلنا مصريين .
I.M.S.A \ M.S.M.O
تحياتي ليك على القصه الجميله دي
ردحذفبس اعتقد ان اهلنا زمان مكنش عندهم الفتنه الطائفية دي او حسب ماما مابتحكيلي ان الافكار دي مستحدثه
عموما كلنا مصريين كلنا نعاني من القمع والاضطهاد
في المعتقلات اعتقد مابيفرقوش بين مسلم ومسيحي
just waiting :
ردحذفالشكر لك على المرور العطر والتعليق .
بالفعل لا يتم التفريق في المعتقلات بين المسلم والمسيحي لانهم في هذا الشأن يحملان الجنسية المصرية .
نتمنى أن تنتهي تلك الفتنة الطائفية وتعود الوحدة لهذا البلد مرة أخرى .
اتمنى أن تكون المدونة قد راقت لكِ
أسلوبك جميل و واضح و يبعث على التفاؤل
ردحذفدعنا نأمل خيراً
هذه المره اعجبتنى قصتك جدا
ردحذفوبدون اى ملاحظات
وارجو المزيد
هذه المره اعجبتنى قصتك جدا
ردحذفوبدون اى ملاحظات
وارجو المزيد
على باب الله :
ردحذفمنور مدونة المجانين ..
وشكرا على تشجيعك ..
غير معروف :
ردحذفمنور مدونة المجانين ويسعدني ان تكون قصتي قد نالت اعجابك ..
تابع المزيد على مدونة المجانين ..
الله بجد قصة جميلة جدا جدا و بتغطي المشاكل اللي بتواجهها بلدنا دلوقتي من فتن طائفية و فتن دينية
ردحذففعلا و الله احنا كلنا مصريين
و لازم ناخد بالنا من كده
و على فكرة كلنا اصلا زهقانين من الحكومة بتاعتنا
مش بس مسيحي او مسلم
كلنا مضطهدين بجد
ربنا ما يسمح بنشر هذه الفتن بين المصريين
و الا بجد ساعتها مصر هتولع هتولع هتولع
ربنا يرحمنا و يحفظنا يا رب
خالص تحياتي و تقديري يا اي ام
مهموهة :
ردحذفمنورة القصة بردك ..
شكرا لكِ على التواجد المتميز
واتمنى ان تنال اعمالي اعجابك
واهلا بكِ في مدونة المجانين ..
بصراحة لولا المشاجرة فى نهاية القصة لشعرت بعدم التوازن ، فالبطل المسلم غير تفكيره 180 درجة لكن هذا لا ينفى وجود امثاله من المتعصبين ( او حتى من لا يفهمون جيدا ) بين المسيحيين
ردحذفالمشكلة هى ان الحادثة تقع فتجد الاف المسئويلن يرددون بأنه لا فتنة طائفية وكلها مجرد ( قلة ) .. لكن لم لا ينته هؤلاء القلة من مجتمعنا ؟ لم يبدو أنهم يتزايدون فعلا ؟؟!
أصلح الله الاحوال وهدى الجميع الى ما فيه خير لمصر كلها
( عجبنى فعلا تعليق ان المعتقل مش بيفرق بين مسيحى ومسلم )
فى انتظار المزيد من القصص ان شاء الله :)
بلاك بيرل :
ردحذفمنورة القصة ويسعدني انها راقت لكِ
ان شاء الله تعجبك باقي القصص ..